يُروَى، والعهدة عليَّ هذه المرة، أن ضيعتي البعيدة ثلاثة كيلومترات مملّة كالجحيم عن الطريق الدولي كان لديها أعراس في يوم ما، أعراس طبيعية كتلك التي يحنّي العريس فيها خنصره ليلفه بخمسمائة ليرة سورية مهيبة الشيب والقدر.
وكان لدينا كما جميع قرى هذا القطر العظيم الصامد، بدو، وكان البدو كما جميع بدو هذه الكرة الأرضية اللطيفة لديهم، كلب، وكان الكلب اللطيف يدعى بارود. وبارود هذا كلب نحيل شرس يتميز بولدنة الحرام وانعدام الشفقة، ويمتلك كثيرٌ من أطفال هذه القرية البائسة، بالإضافة إلى المطار الذي سبب لهم اللوثة التي حرمتهم من المرح، آثارَ أنياب بارود على مؤخراتهم الغضة. لا بد من تطعيم على كتفك وأحد آثار أنياب بارود على مؤخرتك، كبطاقة هوية لمن تضيّعه أمه بين صغار القرى الأخرى الذين يسبحون على قنطرة العاصي.
والعاصي هذا نهر عادي جداً، لم يعط لهذه القرية أي نوع من المزاج المائي، بل كان نهرُ الطائرات المقلعة والهابطة في المطار أقوى تأثيراً بملايين المرات من هذا النهر العادي حتى القرف، ما من مطعمٍ جيد على طول هذا العاصي على الأقل في الريف الحمصي، ما من سمك يمكن أن يصطاده أي كائن من هذا النهر. حتى محطة تحلية مياه النهر التي أقيمت بالقرب من ضيعتنا تعطيك مياهاً منخفضة العذوبة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أشهد صادقاً بأي أثر إيجابي لهذا النهر على قريتي.
لم أسمع في حياتي – وعلى مسؤوليتي- قصيدة جيدة واحدة كتبها شاعر حمصي واحد في هذا النهر، وفي أول اتصال لي مع هذه العاصي العادي، كَرَشَنا أصحاب الضفة ولفّوا أحدنا بالحصيرة التي أحضرناها للسيران، وألبسوا واحداً آخر منا البطيخة التي تكبدنا حملها حتى العاصي لنتسيرن هناك في رأسه.
الأعراس .. نعم، يقف الجميع على حافة العرس من على موتوراتهم يراقبون مجرياته، وأهل العريس وعائلته يرقصون ويدبكون، ولا بد أن يحظى أخو العريس الذي لم يلمس امرأة يوماً باهتمام أم سند «النورية» التي تحمل عن نساء القرية حلم الرقص الحر في حلبة العرس الصاخبة دون قيود، تبصق الكثيرات على جلابية أم سند عندما يرين أزواجهن متلهفين للرقص والقرص والعقص مع أم سند في حلبة العرس.
أمسك أبو يوسف أحدَ المرتكين على موتوراتهم، تنابلة الأعراس، بعد أن ألقى بنظرة ذات معنى إلى إحداهن خارج فريق النوريات المسموح مغازلته، ربطه في كرم اللوز ليمرَّ جميع تنابلة الأعراس ويبصقوا عليه تباعاً، ثم ذهب أبو يوسف مطمئناً إلى صاحبته في القرية المجاورة.
كان أبو يوسف حاداً وقاطعاً وجازماً: لا يعني أن لدينا مطار ونهر أن الرايح والغادي يحق له الهبوط في ضيعتنا، وندراً علي لأفضحن وجود هذا المطار السري لغربان الأرض، أما العاصي فدواؤه عندي.
كنت أحلم دائماً وأنا طفل بأبي يوسف مشمراً عن ساعديه، واقفاً في وسط نهر العاصي القادم إلينا من لبنان القريب كأنوفنا، محاولاً وقف هذا النهر، صارخاً «لا نريد شيئاً من لبنان سوى البسكليتات والموتورات، من طلب منهم أنهاراً».
عندما زرت النهر في حماة القريبة أيضاً، لم أجد مكاناً لالتقاط صورة مع النواعير، كان هناك رائحة سيئة قرب النهر، كنت أشعر دائماً في هذه المدينة التي يقسمها العاصي أن هناك أمواتاً كثيرين يعيشون في الطرقات، أو على ضفاف النهر، لذلك يتمتع الناس هناك بأصوات منخفضة.
منحنا العاصي في قرانا في حمص صوتاً عالياً متعالياً وقحاً، ومنحهم في حماة صوتاً منخفضاً لكي لا يزعجوا الأرواح الهائمة على الضفتين.
مطار عسكري ونهر، هذا أكثر مما يمكن لقرية وادعة أن تحتمل.